الجمعة، 19 يوليو 2013

سلسلة قصصية..."3"

ودعت زهرة سمر في حوالي الرابعة. لم يبقى الآن في هذا البيت الخالي إلا هي. هي وتفكيرها المستمر عن بحث الأحياء المقيت والمكتبة السرية وعن تلك الأوراق التي وجدتها بها. لم تفتحها بعد فقط خبأتها تحت وسادة سريرها. لا تعرف لماذا تأخذ تلك الأوراق جزءا كبيرا من إهتمامها. قامت زهرة من الشرفة التي احتلت مكانا فيها وهي تودع رفيقتها واتجهت إلى الأعلى. صعدت السلالم إلى حيث تقع غرفتها وقفزت لسريرها. ستنهي تسآؤلاتها الأن، قررت. أخرجت الأوراق من تحت الوسادة ثم نظرت بعمق إليها بعد أن جلست ورجليها في إتجاهان متعاكسان. "لماذا خُبئتي في ذلك الكتاب؟". بدأت زهرة في القراءة.

عزيزي جمال،
كيف أصبحت وأمسيت؟ أهديك سلامي ومحبتي. مر زمن يبدو كدهر منذ أن تحاكينا لآخر مرة. اليوم أنا طيار من الدرجة الأولى أجوب العالم. زرت الكثير من البقاع في هذا العالم صديقي ولا زلت أحن إلى أيام شبابي الأول، إلى لقاءاتنا وسهراتنا، مقالبنا ومواقفنا.. إلى كل شيء جمال. سمعت بأنك رزقت طفلا، مبارك لك. لا زلتُ متزوجا يا صديقي بدون أولاد. لم أسمع الكثير عن رفاقنا الآخرين. كلٌ قاد طريقا له في هذه الحياة، ولكني أذكر آخر خبر سمعته عن صديقنا قادر. لقد اتجه ليكمل الدكتوراه في الولايات المتحده.
أحب لو كان لدي أكثر من ما كتبته لأشاركك به، ولكن أنت تعلم كما أعلم أنا، أن المسافات بيننا تجعل الأخبار شحيحة. لا تتردد في الرد عليّ.
رفيق الطفولة،
جوزيف كرم.

بعد أن أنهت زهرة قراءة الرسالة بقت قليلا في شيء من الحيرة. "من يكون جوزيف هذا؟" قالت في نفسها. سارت أفكار زهرة إلى مكان بعيد، إلى حيث تتذكر مائدة الطعام الضخمة مليئة بصنوف الطعام والشراب، يلتف حولها كل أفراد عائلة جدها..وجدها في رأس المائدة يحكي أحيانا عن حياته الماضيه، عن طفولته ودراساته في الخارج، كيف كافح من أجل التعليم الذي لم يجده في موطنه، وهو يصف الشعور بالغربة. تحدث عن الحياة هناك عن الناس وأطباعهم، عن الجو والطعام. لم يذكر مرة إسم جوزيف على مائدة الطعام. في الحقيقة، لم يكن يذكر أن له رفاق أبدا.
تواصل زهرة التدقيق بشأن الرسائل، تتساءل ..لماذا لا يذكرهم أبدا؟ ثم تضع رأسها على مخدتها وتغلق عينيها وهي تأخذ نفسا عميق. لا تعرف الكثير عن الكثير من الأشياء، لكنها تعرف بأن هناك شهوة تحس بها للوصول إلى حقيقة أمر الرسائل. إلى حياة جدها في الخارج، ورفاقه الذي يبدو أن الصلات بينهم قد انقطعت منذ عهد طويل. تتفكر في حميمية الرسالة التي أرسلها المدعو جوزيف. تهمس: لا بد أنهم كانوا أعز الرفاق في يوم ما. ثم يعود التسآؤل إلى ذهنها. هل سيخبرها جدها شيئا عن ماضيه الذي أثار فضولها الآن؟
ربما،سيحزن فهو لم يعهدها متطفلة. تردد في ذهنها: لا،لا،لا. لن يغضب، جدي شخص عقلاني لا تنتابه نوبات العواطف عندما يكون بإستطاعته توضيح قوله في موضوع لا يخصني كهذا بمسؤولية الراشد الحكيم، الذي يكون هو. ثم تكمل في الإقرار لنفسها: وأعرف أنني سأبحث عن باقي الرسائل. لا يمكن أن تكون هذه الرسالة الوحيدة من ابن كرم. ماذا عن رفاقه الأخرين، ألم يراسلوا جدي كذلك؟ لا بد أن تلك الرسائل مخبأة في ثنايا كتب تلك المكتبة، ولا بد أن أجدها.

الساعة السادسة. زهرة تعرف بأن والديها سيأتيان في أي لحظة الآن وتعرف أيضا بأنها لن تستطيع التحرك بحرية في هذا المنزل من دون أية استعلامات عن مكان تواجدها. يجب أن تنتظر حتى يكون المنزل خاليا مرة أخرى.  
وكما توقعت زهرة وصل والداها بعد 15 دقيقة. رائع،فكرت زهرة.
في صباح اليوم التالي لم يكن بإمكانها الإنتظار لحظة أخرى ستذهب إلى تلك المكتبة ولو زحفا. الفضول يقتلها. مع هدوء الفجر خطت خطوات ساكنه نحو المكتبه. ما عليها الآن سوى أن تبحث في كل تفاصيل هذه المكتبه. تمتمت: "ها نحن نسير". بدأت بالبحث في نفس المكان الذي وجدت فيه الرسالة الأولى. بعد ساعة ونصف لم تجد شيئا البتة. "آه، ماذا الآن؟" جلست في الأرضية المبلطة مع قليل من الإحباط. ثم حصل شيء غريب، وهي جالسه انتقل نظرها إلى مجموعة كتب دراسية لاحظتها من قبل لكنها لم تعريها انتباها.
لم تضيع أية لحضة قبل أن تفتش دواخل كتب الدراسة تلك.
ستة رسائل. وجدت ستة رسائل في صفحات تلك الكتب. تنهدت تنهيدة طويلة "وأخيرا" .
قررت زهرة بأن حصيلة اليوم من الإكتشافات في أرض المغامرات المعروفة أيضا بالمكتبة السرية كافية للآن.
أخذت الأوراق إلى غرفتها للأعلى وباشرت في القراءة.

عزيزي جمال،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كيف حالك أخي؟ انقطعت سبل الوصول إلى لقاكم وما زلنا لمعزتكم نحاول إيجاد الوصال. الحمدلله أطمح لوظيفة محمامي، وأنا والمحاماة قضية شقاء بعدها ود طرفي إن شاء الله. بين يوم ويوم أرى نفسي، أخي، بين خيالات أيامنا السابقه. أشتقت لمجالسنا وأحاديثنا. يا ليت الشباب يعود يوما. في شيبنا طبعا، جمال. لا زلت أذكر مناشباتنا في السياسة. لا زلت أذكر اتفاقاتنا السرية كذلك. أرجو أن تسامحني على انقطاعي الطويل والله عليم برغبتي في سد الفجوة الفاصلة بيننا من زمان ومكان.
أخيك،
سعيد القصبي

عزيزي جميل،
لا أحب وصفك إلا بجميل، لطالما كررت لك يوم ما كنا نعيش معا أني أفظل اسم جميل. أنا بخير برشا برشا واتمنى شعورك بالمثل أيضا. اليوم رفيقي قرأت الأدب الفرنسي ووجدته كالعسل يذوب في اللسان. لا يضاهي أدبنا العربي ولكني أتقبل الإطلاع على ما هو مختلف. لما لا؟ أنا مختلف. اعذر وقاحتي جميل، ها أنا أملي الصفحات أخبار حياتي. لا تلمني، جزءا مني باقي في بلاد الغربة. في نزهاتنا والمشي في تلال لا نهائية. وفي وجوه أصحابنا. أتمنى أن نبقى في تواصل طيب. الكلمات المكتوبة مشكلة بالنسبة لي جميل. كلنا نحب الإختصار في مراسلاتنا واللغو في كلامنا، لم تنسى هذا ها؟
مع إخلاصي،
قادر.



"هل يجدر بي المتابعة الآن؟" زهرة تقول في نفسها. " لما لا؟"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق